المرأة ذات العقود السبعة

في صباح يوم جميل غائم مع نسمات البرد العليل، خرجت من المنزل مرتدياً معطفاً اهدتني اياه أمي، فهو كثيراً ما يشعرني بالدفء المعنوي اضافة إلى الدفء الحسي الذي حيك من أجله.

ركبت سيارتي متجهاً إلى أحد الشواطئ الذي يمتاز بمطاعمه ومقاهيه وموقعه الاستراتيجي، اخترت مطعماً فيه طاولات تبعد خطوات عن الشاطئ، فاخترت أقربها وطلبت من النادل قهوتي المفضلة ومظلة تحسباً لهطول المطر.

التاسعة صباحاً

ماهي إلا دقائق حتى بدأ المطعم بالازدحام حوالي الساعة التاسعة صباحاً، لست وحدي من جاء ليستمتع بهذه الأجواء التي ننتظرها بشوق بعد مضي ستة أشهر من صيف حارق، فهذه الأجواء بالنسبة لي تعمل أداة تصفية لما رسبته عوامل الحياة من أفكار وسلوكيات تجعلني مع مرور الزمن أشعر بنوع من الندم يخالج نفسي لما صدر منها من سلوك أو ما اعتقدته فكراً سليماً وتمسكت به.

في خضم انشغالي بجلسة التأمل هذه، إن صح لي تسميتها بذلك، جلست على الطاولة التي أمامي إمرأة عمرها يترواح بين العقد السادس أو السابع، وكانت توزع الابتسامات على الجميع.

وفجأة نظرت إلي وألقت التحية قائلة: كنت أراقبك منذ دخولي المطعم وقد استغرق وصولي إلى هذه الطاولة وقتاً طويلاً فقد تجاوزت السبعين من عمري كما ترى وخطواتي أصبحت ثقيلة ثم ضحكت بلطف .

قالت: ما الذي يشغل بالك وأنت ما زلت في مقتبل العمر؟

فأجبتها بما كان يلوح في فكري وخاطري.

قالت: هذا الذي أشرت إليه وما وصفته بأداة التصفية أو باللغة الإنجليزية Filtration هو دأبي طيلة السبعة عقود ولكن بشكل شبه يومي إذ لا أخلد للنوم قبل محاسبة نفسي ومسامحة من أساء، ثم أنشدت أبياتاً لا أتذكر منها غير الشطر التالي:

 والنفسُ كالطفلِ إن تهملهُ شَبَّ على .. حُبِّ الرَّضاعِ وإنْ تَفْطِمْهُ يَنْفَطِم ••• البوصيري

ثم أكملت حديثها وقالت: وأما مسألة أن تعتقد بفكرة ما، لقناعة ما، وأدت إلى تمسكك بها ومع مرور الزمن اتضح لك خلاف ذلك فلا بأس طالما أن الفكرة أُخذت دون لجاجة عناد ظناً أنك قد انتصرت على مخالف لك في الفكرة.

المنهجية

وأردفت موضحة نهجها في المسألة قائلة:

أنا مقتنعة بما اعتقده ولا الزم أحداً بما اعتقد، لذلك لا أقبل لأحد أن يلزمني بما يعتقد، والآية تقول “لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ”، لذلك دائرتي واسعة وتتسع للجميع، وأما من يلزم الآخر بفكرة ما، فذاك دائرته ضيقة لإصراره الولوج في دائرة الغير، ليس اقتناعاً منه بما يعتقد الغير بل لسلب الغير ما يعتقد بما يعتقد هو، فلذا على من يمتلك هذا النوع من التفكير أن يوسع دائرته ولا يلج دائرة الغير ويضيقها.

القاع قمة

وأكملت وقالت: نحن تغلب علينا العاطفة حتى في الأفكار، لننتبه كي لا ننخدع، فليس علو الشيء دائماً يمثل القمة، فقمة المحيطات والبحار القاع.

ليس كل ما يلمع ذهباً ••• ويليام شكسبير

ولكي تصل لقمة فهم الآخرين عليك الغوص إلى قمة أفكارهم ومعرفة ما نقشته عوامل الحياة وتجاربها فيهم والتي بنت أفكارهم، ليسهل عليك طرح الفكرة التي تتناسب مع مفاهيمهم، وما أعنيه هنا أولئك الذين يحاولون جرك لدائرتهم أو انتهاز الفرصة للولوج لدائرتك لتحجيم فكرك وبذلك يكون سقف فكرك محدود تماماً كحدود دائرتهم، فأرْدَعْهُم عن ذلك واجعل منهجيتك في ذلك احترام أفكارهم وآرائهم وقناعاتهم، وستجد أن دائرتك تتسع لا إرادياً مكتسية بالإحترام، مكتسبة الإحترام، لذلك اصغ وتأمل مرحباً بما يخالف ما تعتقد، واعلم بأن الترحيب لا يعني القبول بل يعني أن الدائرة تتسع.

العقل الواعي هو القادر على احترام الفكرة حتى ولو لم يؤمن بها ••• نجيب محفوظ

خلاصة السبعين عاماً

مرت نسمة هواء باردة ارْتَجَفَتْ بسببها، فخلعت المعطف الذي كنت أرتديه ووضعته على كتيفيّها، فشكرتني ثم تمتمت قليلاً وقالت: سأضيف لك أمراً آخراً وهي نصيحة أقرب ما تكون إلى خلاصة ما استفدته طيلة السبعين سنة، وهي أن بعض الأفكار التي تطرح ونستنكرها قد تكون في الأصل سليمة وفعالة في فترة زمنية ما أو في بيئة ما وانتهت أو تناقلها جموع عن جموع منهم من هو ليس بأهلٍ لذلك فمزقت سلامة الفكرة، لذلك حاول أن ترجع لأصل الفكرة قبل الحكم عليها.

بدأت قطرات من المطر بالتساقط واستأذنت بالذهاب على عجل معتذرة مني عدم إكمال الحديث فقد تركت احدى شُرُفات المنزل مشرعة. وهنا انتهى اللقاء، وأقبل النادل راكضاً مبتسماً قائلاً: إنها تمطر سيدي وقام على الفور بفتح المظلة.

تحياتي

عمر بن يحيى الجفري

One comment

  1. جميل سيد
    الله يرزقنا العقل والواعي والسعة واحترام فكر الاخرين وان لم يقبل

    Like

Leave a Reply