خَمْرُ الرُّوح

الخامسة فجراً

زوجتي بوجهٍ باسمٍ: صباح الخير، استيقظت مبكراً؟ ليست هي عادتك! ما الذي حدث؟

أنا مبتسماً محتضناً اللحاف: صباح النور، أأأه إنه البرد لقد أيقظني.

img_0020

استيقظت في تمام الخامسة فجراً قبل ولادة شمس الصباح، لقد نسيت النافذة مفتوحة، نسائم فجر باردة تسللت إلى غرفتي مُشَكّلةً مشهداً جمالياً بين الستارة المتمايلة وضوء القمر وتسبيح العصافير. شعورٌ غمرني بل فاض عليّ معنىً من السعادة وخاصة بوجود مَن أحب مِن حولي. كان معطفي الصوف ملقى على الأريكة وبجانبه شال زوجتي الأبيض وفِي الجهة المقابلة ماكينة لتحضير القهوة كنت قد اشتريتها ليلة البارحة وقد انتهزت الفرصة وقمت بتحضير فنجان قهوة.

المعشوقة السمراء

ما إن شرعت في تحضير القهوة وفاح ريحها وإذ بي استحضر قول الشاعر:

“انا المعشوقة السمراء وأُجلى في الفناجينِ

وعودُ الهندِ لي عطر وذكري شاع في الصينِ

وعندي الفاتحة تقرأ وهذا القدر يكفيني”

أخذت فنجان قهوتي وتوجهت إلى النافذة وفتحت الستائر، كانت الشمس تتأهب للإشراق، والجو كان قارس البرودة، وضعت فنجان القهوة وذهبت ولبست المعطف ووضعت الشال على عنقي وعدت لأقف أمام النافذة متأمِلاً مُؤمِلاً تغمرني السعادة، ألقي السلام على كل من يعبر الشارع أو تلقاه عيناي راجياً لهم يوماً مليئاً بالحب والسعادة، فأبصرت رجلاً بدت عليه ملامح التعب والإرهاق، لا تفارق الابتسامة محياه، جسمه نحيل وحاله مبتهج متوهج أحسست بطاقة غريبة تصدر منه.

انتابني الفضول فدعوته لشرب فنجان قهوة، فأجاب الدعوة دون أي تردد.

فتحت الباب ومن هنا بدأت الحكاية

الحكاية

الرجل مبتسماً: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، شكراً على دعوتك، أرجو أن أكون ضيفاً خفيف الظل.

أنا مبتسماً: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، على الرحب والسعة، تفضل.

الرجل مستغرباً! أشم رائحة القهوة ولكن أين هي القهوة؟

أنا في عجل: نعم نعم أمهلني بضع دقائق وتجهز، تفضل تفضل

ذهب الرجل يجول في الغرفة وكان يتمتم بينه وبين نفسه بعبارات لم تكن مسموعة، وأخيراً توقف عن التجول أمام النافذة شاخصاً ببصره إلى السماء وكأنني أسمعه يردد: “الحمد لله على قلب مليء بتلك المعاني”

فجأة انفتل نحوي قائلاً: كنت أراقبك وأنت تبتسم تحيّي الجميع راجياً لهم يوماً سعيداً.

أنا متوجه إليه: تفضل هذه قهوتك، مردفاً: نعم فقد استيقظت اليوم بطاقة كبيرة وقد .. أمممم .. لا عليك لن تفهم ما سأقول.

الرجل رافعاً فنجان القهوة مستنشقاً رائحتها وبدأ يشدو مبتسماً قائلاً:

“انا المعشوقة السمراء وأُجلى في الفناجينِ

وعودُ الهندِ لي عطر وذكري شاع في الصينِ

وعندي الفاتحة تقرأ وهذا القدر يكفيني”

أنا في دهشة: أتعرف هذه الأبيات! قد كنت أرددها قبل مجيئك.

الرجل: ألا تعلم أنها خمر الروح، وأردف قائلاً: لم تخبرني سر سعادتك هذا الصباح؟

أنا: لقد أيقظني نسيم البرد وضوء القمر وتسبيح العصافير

الرجل قائلاً: إنه معنىً من عدة معاني، كلها تندرج تحت معنىً واحد.

أنا متعجباً: وما هو؟!

الرجل: كل حدث أو أمر، بلاء كان أو نعمة لا يزيد فيك من ذاك المعنى، فأنت ميتٌ لا يُعَوَّلُ عليك.

أنا وعلى ملامحي نوع من الحيرة والتوتر: المعذرة لم يتسنى لي لأُعَرف عن نفسي، أنا عبدالله وهذه زوجتي سارة وهذا النائم ابننا محمد وأنت من تكون؟ وكأنك غريب ليس بغريب، حالك ومقالك لا يدلان على هيئتك.

الرجل  معتدلاً في جلسته حيث جلس متربعاً على الأريكة ورمقني بابتسامة دافئة ففهمت أنه يفضل عدم الإفصاح عن نفسه.

الرجل ارتشف رشفة من القهوة وسرح قليلاً وكان نظره باتجاه النافذة إلى السماء مبتسماً وقال: لا يوجد في قاموس العاشقين فراق كي يكون هناك وصال، ما يوجد حقيقة في قاموس العشق هو النقاء المفضي إلى اتصال ولقاء من غير انقطاع، لك أن تتخيل نقاء وسكون الماء فهو يريك ما في الأعماق وكذلك نقاء القلب يريك ويدلك على ما يثمر بقاء الوصل.

tempimageforsave

“الوداع لا يقع إلا لمن يعشق بعينيه، أما ذاك الذي يحب بروحه وقلبه فلا ثمة انفصال أبداً”

انتبهت أنه قد أنهى فنجان قهوته فسألته إن كان يريد فنجان قهوة آخر، ولكن لم يأبه لكلامي وكأنه لم يسمعني، كأن روحه لم تعد في جسد

الرجل أكمل حديثه مبتسماً ناظراً إليّ هذه المرة قائلاً: أتعلم أنه قد يصيب القلب عارض تماماً كأي عارض قد يكدر صفو الماء. فالضجيج يفقدك التركيز، والصبر سكون يورث الطمأنينة، اجعل قلبك ساكناً نقياً أي صابراً محباً لن تلتفت لأي ضجيج وعندها ستدرك المعنى، ألم تقرأ – مشيراً إلى مكتبتي بجانب النافذة، كان هناك كتاب لمولانا جلال الدين الرومي – قول مولانا الرومي عندما قال: “العاشق لا يعرف اليأس أبدا، وللقلب المغرم كل الأشياء ممكنة

أنا وعلى محياي الحيرة: كيف؟!

الرجل مجيباً: للعشق دهليز واحد، ولكن الطريق سيضنيك ، وسيطول الانتظار والهمَّ سيصاحبك، وستصاب بالنحول ولكن لن تصاب بالضعف، واسمع مقولة أخرى لمولانا الرومي – كان آخذا الكتاب بيديه يتفحصه – يقول فيها: “لا تجزع من جرحك، وإلا فكيف للنور أن يتسلل إلى باطنك؟

سكت قليلاً ثم تنهد وقال:

العشق قوة ليس بضعف كما يتوهم الناس، اكسه بثوب التغافل عن كل ما يشيب -مشيراً إلى قلبي- لا بثوب التجاهل فالأول مصحوبٌ بالذكاء والحكمة وأما الأخير فهو عين الغباء.

أنا: كيف أعرف العشق أو كيف للعشق أن يعرفني؟

الرجل مبتسماً: العشق حال لا مقال، فانظر كيف هو حالك في حال العشق. العاشق في حاله لا يلام وكيف يلام من في العشق قد اتصل وهام، والعشق مراتب ففي العشق فليتنافس العاشقون.

صمت برهة ثم أدمعت عينه فمسح الدمعة بطرف كمه وقال بصوت محشرج: إذا أسكرك ذكر المحبوب (من تعشق وعند بابه تخضع) فقد نلت المطلوب، وأنشد في طربٍ:

“قلبي سليبٌ في هواهُ و حبـّذا

قلبٌ به بين القلوبِ سليــبُ

فإذا شدا شـادٍ بـه فمدامعي

وبلٌ لها فوق الخدودِ صبيبُ

قَبُحَ البـُـكا في غــيره لكنَّـهُ

فيه البـُـكا مُستَمْلحٌ محبـوبُ

ذكراه تُسكِرُ كالشَّمُولِ ومدحُهُ

تحــلو بـه أوقـاتُنا وتـطيـبُ”

img_0018.jpg

سكت الرجل مرة أخرى واضعاً الكتاب جانباً وابتسم وقال: قل لي أنت الآن من تعشق أخبرك أي العاشقين أنت؟

أنا مجيبٌ مكتفٍ بهذين البيتين:

“على بُعد الحِمى ياخَي .. له آطوي البوادي طي

 ومهما الناس لاموني .. أرى روحي في ذاك الحي

تحياتي

عمر بن يحيى الجفري

Leave a Reply