لقاء العاشقين

اللقاء

قُبَيلَ منتصفِ ليلةٍ باردةٍ في حدود الساعة الحادية عشرة ونصف، خرجت من المنزل وتوجهت إلى المنتزه، وبينما كنت أمشي جالت في الخاطر عدة أمور كأي شخص يمشي وحيداً تتخطفه الأفكار، كانت تلك الخواطر جلها يربط بينها قاسم مشترك واحد هو الهَمّ أو بمعنى آخر القلق والخوف من ما هو آتٍ – الغد – ، وبعد برهة من الزمن توقفت تلك الخواطر وانتابني إحساس غريب، وكلما اقتربت من مدخل المنتزه يزداد ذلك الإحساس، ودون شعور بدأت أكرر الدعاء: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ مِنْ فَجْأَةِ الْخَيْرِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فَجْأَةِ الشَّرِّ، وما إن تخطيت المدخل الرئيسي للمنتزه، إذ أرى – الحكيم – كأنه ينتظر قدومي

ليست صدفة، هي كالمطر

أهي صدفة .. لا .. لم تكن صدفة .. هي قدر .. لا أؤمن بالصدف

هناك القدر .. لا أريد سوى القدر .. الرضا والتسليم بما قدر

البحر مده وجزره .. قدر

السحب والغيوم .. قدر

تعاقب الليل والنهار .. قدر

الحزن والفرح .. قدر

جميع الحوادث في الكون أجمع .. قدر

قال لي ذلك وكنت شارد الذهن مبتسمًا وعيناي قد امتلأت بالدموع .. أدركت وقتها معنى تداخل المشاعر

قلت: أهذا أنت حقًا؟

قال: الحَقُّ أنَّ الحَقَّ أراد لنا اللقاء مجددًا .. لا أنا ولا أنت بل القدر، ثم ابتسم وقال بنبرة صدق: كلانا مشتاق

قلت: اعذرني، لا زالت الدهشة تتملَّكني، قد مضى على لقاءنا الأخير قرابة الأربع سنين ونيف

قال: ما أجمل هطول المطر

!قلت: ماذا تعني بذلك؟ أين المطر

قال: وهل تظن أن لقاء المشتاقين يأتي صدفة دون تدبير القدر؟ ما أجمل لهفة الترقب والانتظار، وأجمل منه لحظة اللقاء من بعد الغياب

قَومٌ إِذا هُجِروا مِن بَعدِ ما وُصِلوا”

ماتوا وَإِن عـادَ وَصـلٌ بَـعدَهُ بُـعِثـوا

تَـرى المُـحِبّينَ صَرعـى في دِيارِهِمُ

“كَفِتيَةِ الكَـهفِ لا يَـدرونَ كَـم لَـبِثوا

-الحلاج-

الموت هو الحياة

قلت: لقد طال الغياب حتى ظننت أننا لن نتلقيَ أبدًا

قال وهو شاخصٌ نحو السماء: كأنها ستمطر: الأرواح تتلاقى وإن لم نشعر بذلك، وها أنا أمامك يا بني، ساقني الحب إليك

قلت: الحب قد يرديك ميتًا

قال: بل يحييك، فاشرب من الكأس الذي شربوا منه وسترى أنَّ في ذلك الموت حياة

مـا شِـربَ الـكاسَ واحتساهُ”

إِلا مـحِـبُّ قـدِ اصـطـفـاهُ

يـا عاذِلـي خلِّـني وشُـرْبـي

“فلسْتَ تدري الشراب ما هُو

-الششتري-

الكأس والشراب

قلت: وهل في ذلك الكأس ما هو ترياق لما يجول في هذا العالم من حوادث تضيق بها الصدور؟

قال: وهل تظن أن ليس هنالك عوالم أخرى؟ سكت قليلاً ودمعت عيناه ثم تنهد

وقال: صحبنا أقوامًا شربوا من تلكم الكأس وتخبطت من حولهم العوالم وهم في سكون، تحققوا بقول سيدنا علي بن أبي طالب:

تَـرَدَّ رِداءَ الصَـبـرِ عِـندَ الـنَـوائِـبِ”

تَنَل مِن جَميلِ الصَبرِ حُسنَ العَواقِبِ

وَكُن صاحِبًا لِلحِلمِ في كُـلِّ مَشهَدٍ

“فَما الحِلمُ إِلّا خَـيـرُ خِـدنٍ وَصـاحِـبِ

قلت بلهفة وتشوق: أين ذلك الكأس؟ أريد أن أشرب منه

نظر إليَّ نظرة شفقة ممزوجة بابتسامة وقال: جِد في السير، عسى أن تجد الدير، وإن تم لك ذلك، فاقرع الباب، وعند فتح الباب تجد الكأس والشراب

وترى القومَ سُكارى وهمُ ليسوا سُكارى”

“لكنْ المحبوبُ أرخـَى عنْ مُحيّاهُ السِتـَار

-الشاغوري-

التفت إليَّ وقد همَّ بالرحيل وقال: لعلَّك غدًا للعاشقين فاتح الباب

بدأت قطرات المطر بالتساقط

انتهى

عمر بن يحيى الجفري

One comment

Leave a Reply