كُنتُ تائهاً
ظلمة، غيهب، غبس، ديجور، غلس، هي أسماء من أسماء الظلام أسميتها على شهور مضت من حياتي. كان الصبر والهَمّ رفيقي درب تلكم الشهور، تارة ألتحف الصبر فأغفو، وتارة أرتشف الهَمَّ فأسهدُ.
كنت تائهاً لا أجد لخطواتي من سبيل، وكان الليل في هزيعه الأول، وقد خيَّم الضباب وأسدلت العتمة أستارها، كنت على متنِ قارب متهتكٍ لا مجاديف له، وبدأ يتهادى إلى اللا أين حتى أوصلني لوجهةٍ التقيت فيها بالـ “الحكيم“
الحكيم وأنا
وأخيراً اجتمعت به صدفةً، التقيت برجل مربوعِ القامة، ذي لحية كثيفة بيضاء ليست بالطويلة ولا بالقصيرة، قد رسمت على محياه حوادث الدهر ما دلت على كبر سنه وما مر به وعاناه، إذ إن كل تجعيدة من تجاعيد وجهه تدل على فترة زمنية تكاد أن تنطق مخبرة بما حدث لها.
“هُمُ الجِبَالُ فَسَل عنهم مُصَادِمَهُم
ماذا رَأى منهم في كٌلِّ مُصْطَدَمِ“
-البوصيري-
جلست بجانبه متأملاً وبعد السلام والتحية تبادلنا أطراف الحديث، كان هادئاً في حديثه، مبتسماً بابتسامة أخفت تلك التجاعيد، فعرفت أن الجوهر أقوى من كل حوادث الدهر، وأنه مهما تأثرت ظواهرنا، فثم نور في بواطننا يجب أن يشع.
تأمل الحكيم لغة جسدي وصمتي الطويل وأنا بجانبه شاخصاً ببصري نحو السماء، فسألني قائلاً:
ما هو هَمُّك يا بني؟ وكأن ملامح وجهك تخبر بشيء؟
فأخبرته بالذي يقلقني ويعكر صفو يومي ويبعدني عن من حولي ويجعل من الوساوس هواجس تلازم فكري.
الرحلة بين 2001-2002
قصتي أيها الحكيم باختصار شديد، أبحرت رحلة الظلام هذه في الثاني من فبراير لعام 2001م، عَبرتُ محطات كثر وتَجاوزتُ عدداً لا بأس به من العقبات، كل عقبة تحمل من التحديات الكثير، ما عدا عقبة المرض الذي أصابني، كنت في صراع مستمر، استسلم مرة ومرة أنتصر حتى اُنهكت قواي وغلبني هذا الهَم، واليوم هو الثاني والعشرون من يوليو لعام 2002م، أي سنة وخمسة أشهر وعشرون يوماً في هَمٍّ وغَمٍّ وقلق.
تبسم الحكيم بعد أن سمع قصتي كاملة دون أن يقاطعني وقال: ما تشكو منه هو وَهْمٌ وليس هَمٌّ.
يا بني اجعل هَمَّك أن يكون هو هَمُّك، وأنشد:
“هَمَّـكْ وَاغْتِمَامَـكْ .. وَيْحَـكْ مَـا يُفِـــيـدْ
اَلْقَضَـا تَقَــــــدَّمْ .. فَاغْـنِـمِ السُّــكُـونْ
لَا يَكْثُـرُ هَمُّـــكْ .. مَـا قُـدِّرْ يَـكُـــونْ
اَلَّـذِي لِغَيـْـــــرِكْ .. لَـنْ يَصِـلْ إِلَـيــكْ
وَالَّـذِي قُسِـمْ لَــكْ .. حَاصِـلٌ لَدَيـــــكْ“
-الإمام الحداد-
صَمَتُ، ليس بصَمْتِ دهشةٍ بل حيرة، وقلت له: لم أفهم!
قال الحكيم موضحاً:
أليس صحيحاً أنك اذا أحببت إنساناً يظل هذا الإنسان يجول في ذهنك على مدار اليوم والساعة؟ وأن رقم هاتفه في القائمة المفضلة في هاتفك المحمول مالم تكن تحفظه عن ظهر قلب، وأن كل رسالة واردة تحمل مشاعر الحُبّ والوفاء تعيد إرسالها إليه، وأن نفسك تهفو من الرسائل المرسلة منه دون الآخرين، وأنك دائم الاطمئنان عليه في حين أنك قد تتجاهل الاطمئنان على نفسك، فأصبح هذا الإنسان هَمّك لأنك أحببته.
سَكَتَ برهةً ثم نظر إليّ مبتسماً وقال: أحببه –هو– ليكون هو هَمُّك.
قلت له متعجباً: كيف تقيس هَمُّ من أحب بهَمِّ حبه؟
قال الحكيم: لأقرب لك الصورة لا أكثر، وأما القياس قطعاً لا يوجد
نظر إليَّ وقال: أنظر أين أقامك، ستعرف مقامك، والطريقُ سهلٌ لتصل لوجهةٍ لا يتهادى فيها قاربك، ولا يخيّم فيها الضباب، ولا تسدل العتمة أستارها.
قلت: كيف؟
قال الحكيم موصياً: أكثر من ذكره –هو– ليصبح محبوبك وتذوق معنى القرب وتعرف سرَّ الأدب وكن حاضر الذهن، ولتعلم أن كثرة المناداة تجعل من حالك الحضور، وفي حال الحضور أكثر من رسائلك الصادرة، تنهمل عليك رسائله الواردة وستهفو نفسك وتطمئن.
أردف الحكيم وقال: حضور الحال يبقيك على اتصال، و بقاء ديمومة حضور الحال أن تشغل نفسك به –هو– ولا تشغلها بغيره فيرتاح بالك ويصفو كدر نفسك ويبقى الحضور، وتنبه من أن تشغلها بغيره –هو– كي لا تجد نفسك مقيدةً مهمومةً بما أشغلتها به.
فـ –هو– يحررك من القيود وغيره يبقيك مصفداً.
فأي هَمٍّ ستختار الآن؟ وأنشد مرة أخرى:
“فَاشْتَغِـلْ بِرَبَّـــــكْ .. وَالَّــذِي عَلَــيـكْ
فِي فَرْضِ الْحَقِيقَـةْ .. وَالشَّرْعِ الْمَصُونْ
لَا يَكْثُـرُ هَمُّـــكْ .. مَـا قُـدِّرْ يَـكُـــونْ“
-الإمام الحداد-
الوداع
تبسم الحكيم وقال: قد حان الوداع يا بني – فاتحاً لي ذراعيه – ، فاحتضنته وهمس في أذني وقال:
تيقن أنني سأشتاق لك كثيراً، فالمسافة بعيدة وقد يطول بِنَا الوقت حتى نلتقي مرة أخرى، ولكن اعلم بأن الذي هنا – مشيراً إلى صدره– يطوي لنا المسافة ويلغي مفهوم الزمن، فيا بني نحن على اتصال دائم.
تبسم ومضى، فأنشدتُ:
“تَضِيقُ بِنَا الدُّنْيَا إِذَا غِبْتُمُ عَنَّا
وَتَذْهَبُ بِالأَشْوَاقِ أَرْوَاحُنَا مِنَّا
فَبُعْدُكُمُِ مَوْتٌ وَقُرْبُكُمُ حَيَا
فَإِنْ غِبْتُمُ عَنَّا وَلَوْ نَفَساً مُتْنَا
نَمُوتُ بِبُعْدِكُمُ وَنَحْيَا بِقُرْبِكُمْ
وَإِنْ جَاءَنَا عَنْكمْ بَشِيرُ اللِّقَا عِشْنَا
وَنَحْيَا بِذِكْرِكُمُ إِذَا لَمْ نَرَاكُمُ
أَلاَ إِنَّ تِذْكَارَ الأَحِبَّةِ يُنْعِشْنَا“
-ابن الفارض-
تحياتي
عمر بن يحيى الجفري
ماشاء الله تبارك الله المهم أن تستمر في كتابة همساتك لتصبح نداءات لكل ذي ذائقة .. بارك الله لك وعليك وبك
LikeLiked by 1 person
ما شاء الله قصه معبرة ومطروحه بإتقان ومليئة بالأحاسيس.
خلنا نشوف كتابك في السوق ❤️
LikeLiked by 1 person
ما شاء الله تبارك الله. قصة اكثر من رائعة
LikeLike