في 2/8/2015، طُرحت عدة نقاشات جرى تناولها بالبحث والمداولة في مؤسسة طابة حول كتاب الحق المبين للشيخ أسامة الأزهري وشد انتباهي النقاش حول مسألة دور التربية في ضمان التوجّه الديني السليم وذكرني بتجربة شخصية لي في هذا الشأن، وإليكم القصة باختصار:
أنا من مواليد جدة، المملكة العربية السعودية، “درة عروس البحر الأحمر”، قبل الحداثة، وبعدها صارت “جدة غير”، حتى المسميات تتأثر بالحداثة.
مكثت في جدة قرابة الـ١٨ سنة، وكان مجمل احتكاكي مع الطبقة الأقل من المتوسط في المجتمع السعودي التي غالبيتها من الوافدين. لا أخفي عليكم بأن وضعي الاجتماعي والاقتصادي كان أفضل منهم دون تزكية لنفسي، بالطبع، على أحد منهم.
الرابط الوحيد لمخالطتي لأولئك الشباب وتكوين الصداقة معهم في البداية هو هواية ممارسة كرة القدم في الأحياء المجاورة، إذ لم يكن في الحي الذي أسكن فيه ما يسمى “عيال الحارة” فكنت أذهب للأحياء المجاورة.
انقضت الأيام بل السنين وزاد رابط المحبة والأخوة فيما بيننا إذ كانت لا تنام العين إلا بوداعهم ولا تصحى الا لملاقاتهم، حتى جاء يوم التخرج من الثانوية العامة وكان الوالد مصرًا كل الإصرار على أن أتقن اللغة الانكليزية، فرتب لي السفر إلى ماليزيا، وبالفعل سافرت ومكثت مدة ٧ أشهر، ثم طالبته بالعودة إذ إن أجواء الغربة لم تَرُق لي ولكن الوالد لم يتقبل عودتي حتى أنهي المدة المطلوبة.
انتهت مدة دراسة اللغة وعدت إلى جدة 2002/2003 بلهفة وشوق، فوجدتني في غربة صادمة موحشة إذ وددت أنني لم أعد، فقد رأيت أناسًا كأنني لم أكن واحدًا منهم، فقد كان هناك تحولٌ ملحوظٌ في نبرة الصوت، وفي النظرات، وفي الهيئة التي كانت عليهم، وفوق هذا وذاك اللمز ببعض المصطلحات باعتبار الاختلاف بين ما يعتقدونه وما يعتقده أحد أقربائي، وهو الحبيب علي الجفري. وللأسف كان ذلك يصدر مِن أعز مَن صاحبت، وكنت أتخذ الصمت منهجًا لي في التعبير، ليس خوفًا أو ضعف حجة، ولكن بداعي الحب.
وقد تيسّر لي الانتقال إلى أبوظبي للدراسة والإقامة وكان في ذلك فرصة لي لأبتعد عن ذلك الجو المشحون، فكان هذا البعد سبيلاً للحفاظ على ما بقي من ودّ بيننا.
وحين سألت آنذاك أحد الذين لم يتغيروا معي عمّا حدث، اتّضح لي أنهم كانوا في أحد المنتزهات يتسامرون ويلعبون الورق (البلوت) وفجأة ظهر أمامهم شخص بدأ يحدثهم بقال الله وقال الرسول، وكان هذا الرجل من رجال الدعوة والتبليغ ممن ينبذ التطرف ويحذر من الفتن، فزاد حماس الشباب للدين والالتزام، ولكن كانت هنالك أسباب غيرت مسار هذا الحماس الطيب إلى حماس غاضب ومتشنّج كالذي في المناهج التعليمية والنشاطات الصيفية وعند بعض القائمين على حلقات تحفيظ القرآن في المساجد، إذ كانت السمة المشتركة تكرار ذكر الشرك والبدعة إلى جانب إقصاء المخالف. هذا كله مما يغذي جانب التطرف لديهم؛ ثمّ جاءت الحرب على العراق فزادت من وتيرة هيجان هذا الحماس المتشنّج.
وأذكر قبل سفري إلى ماليزيا أنني كنت أجالس أحدهم، وكان مدمنًا على الخمر والمخدرات، وكان هذا يحزنني فقد كنت مع ذلك أجد فيه بعض الصفات الطيبة وكنت أستأنس بالحديث معه فهو شخص قارئ وصاحب فكاهة وروح مرحة، وكانت مجالستي له في الأماكن العامة. والشاهد أنه كان مضطربًا متناقضًا فتارةً يقصر الثوب، ويطيل اللحية، ويكثر من استعمال السواك، ومن الاعتكاف في المسجد، وينشد الأناشيد الجهادية، وتارةً أخرى يأتينا مستصحبًا العود يدندن بأغاني طلال مداح وغيره. وهكذا تتكرر معه الازدواجية مرة يحمل السواك ومرة آلة العود، حتى أننا كنا نتبادل التخمين بأي هيئة سيأتي. الأمر مضحك في ظاهره لكنه في الحقيقة مبكٍ.
ومنذ انتقالي إلى أبوظبي انقطعت عني أخبار هذا الشخص، فلا أعرف أين هو الآن. ولكنه، إضافة إلى نظرة الإقصاء للمخالف المنتشرة في الأجواء المتشددة، كان له تأثير سلبي بطريقة تشعل فتيل حماسة الشباب، فقد كان يعرض المقاطع المرئية للأناشيد الجهادية في أفغانستان على اليوتيوب.
وقد جرت العادة في رمضان من كلِّ سنة أن أذهب إلى جدة لزيارة الوالدين، وفي زيارتي مؤخرًا مررت بأطلال الأيام الخوالي فالتقيت بعض الأصدقاء القدامى وقد بدا على محيّاهم تغيير جديد، فكأنهم لم يكونوا بالأمس من المتأثرين بالفكر المتطرف، هيئةً وحديثًا، ولم يتسنَ لي سؤالهم عن الحال الجديد لضيق الوقت، ولكنني سألت أحدهم عبر وسيلة من وسائل التواصل الاجتماعي فأخبرني أنّ هناك عدة عوامل من أهمها الأمية الدينية التي هي سمة الشباب عمومًا بسبب ما يتلقونه من تعاليم جمّدت العقول وضيقت الرؤى مع صغر سنهم وتجربتهم في الحياة، إلى جانب الهالة القدسية التي كانت تعطى لرجال الدين مما يؤدي إلى تبعية عمياء. وقال لي: “الحمد لله الذي وهبنا نعمة العقل إذ بدأنا نخرج خارج نطاق دائرة هذا الفكر بالاطلاع واستعمال العقل”. ويبدو أنه من ذلك الوقت بدأ يتكشف لديهم زيف ما كانوا يعتقدونه.
رجعت إلى المنزل وتحدثت مع الوالدة وشكرت لها حالاً ومقالاً دورها في حياتي، فلولا الله تعالى ثم تربيتها وتوجيهها السديد، جزاها الله خيرًا، وتعليمها لنا الدين ومقاصده وروحه السمحة الرحيمة لربما كان من السهل أن أكون متبنيًا للفكر المتشدد، ومتعاطفًا مع رافعي السلاح إن لم أكن واحدًا منهم.
في الختام، أودّ تأكيد أهمية الجوانب التالية:
·التربية السليمة.
·عدم إهمال ما دعانا الله تعالى إليه من التفكر واستعمال العقل.
·أن يكون للمرء نظرة الطائر ليرى الأمور على حقيقتها.
·ضرورة أخذ الدين من أهله المنتسبين للمدارس العريقة في الأمّة.
·الاهتمام بمعالجة المشاكل الاجتماعية والاقتصادية الدافعة أحيانًا لقبول التطرّف.
·العناية بالداخل والاهتمام به في تحصين من أي تهديد أو استغلال من الخارج.
·التنبّه إلى أنّ لكل منا دورًا حقيقيًا ومسؤولية تجاه من حوله من الأهل والأصدقاء بإعانته على الثبات على دروب الخير وسبُل السلامة والسلام.
تحياتي ومودّتي
عمر بن يحيى الجفري
…………